إِنَّ تطور العالمين الحي و اللاحي هو تطور جزيئي موجه، حدث بفعل القوى الطبيعية الأربع (الثقالة، والنوويتان القوية والضعيفة، والكهرطيسية)، وبفعل القوة الطبيعية الخامسة المقترحة (الاستبقائية). ولقد استلزم هذا الفعل للقوى الطبيعية الخمس التوافق التام والأنيق للثوابت الطبيعية كي تحافظ على بنية الكون، وعلى تطور مادته. وحدث هذا التوجيه من قبل القوى الطبيعية الخمس، وبسبب التوافق التام للثوابت الطبيعية، كي تتحقق خاصيتا الأناقة والحكمة، اللتان التزم التطور بتحقيقهما. ولقد حدث هذا التحقق بفعل الاستبقائية (القوة الطبيعية الخامسة)، التي حافظت —عبر ثابتة الترابط (Ka)— على ما انجزته الطبيعة من مادة وطاقة حرة؛ فصانت الاستبقائية المادة —كما نعرفها— ضد فعل التعدمية. كما صانت الاستبقائية أيضاً الطاقة الحرة (–?G) ضد فعل الشوش. أَمَّا النظرية المقترحة الثانية؛ فتتمثل في أَنَّ الجينوم البشري (شأنه في ذلك شأن جينوم الثديات كافة، وربما شأن جينومات جميع الفقاريات، أو حتى اللافقاريات بدرجات تتناقص بوضوحها)، يتألف من قسمين، أو نمطين: نمط جيني (وراثي genotype) يخصص النوع البشري، ويميِّزه عن أي نوع ثديي آخر. ونمط بعد جيني epigenotype يناوع الفرد البشري. ويكوِّن الأول النمط الظاهري الجيني genophenotype البشري؛ بينما يكوِّن الثاني النمط الظاهري بعد الجيني epigenetic phenotype. إِنَّ قرابة 1.5 في المئة فقط من DNA خلايانا يكوِّن نحو 24100 جيناً، موجودة في كل أفراد النوع البشري، هي هي ذاتها، منذ 300 ألف عام (حين ظهر الإنسان العاقل)، وحتى الآن. هي هي نفسها بغض النظر عن عرق الإنسان أو سلالته. إنها مسؤولة عن كوننا بيولوجياً بشراً. لكل منا (ويبلغ عددنا الآن أكثر من ستة مليارات نفساً بشرية) التركيب التشريحي البيولوجي العام نفسه، والخصائص الفيزيولوجية والعصبية والتوالدية والمناعية ذاتها. إِنَّها خلال بشرية النوعية، تخصص النوع البشري بجميع أفراده، وتجعله مختلفاً عن أي نوع ثديي آخر. إِنَّ هذه الخلال الخاصة بالنوع البشري فصلته عن القردة العليا الحالية (وبخاصة الشيمپانزي) قبل ما يقرب من 12 مليون عاماً. وتُعرف هذه الجينات بالجينات البشرية المرمزة للبروتينات، أو ببساطة الجينات البشرية. أَمَّا القسم الأعظم من جينومنا (قرابة 98.5 في المئة)؛ فيختلف —في غالبيته— من فرد بشري إلى آخر. ويناوع هذا القسم الفرد البشري على نحو يختلف من إنسان إلى آخر. إِنًّ هذا القسم من جينومنا يجعل جينوم كل فرد منا جينوماً شخصياً. ويتآذر هذا التباين في بنية DNA مع تحويرات فيزيائية وكيميائية تصيب تسلسلات DNA غير المرمزة للبروتينات (تسلسلات DNA، التي هي خارج تسلسلات الجينات البشرية). وتصيب هذه التحويرات أيضاً الهستونات الخمسة، التي تشكل مع DNA صبغياتنا الثلاثة والعشرين؛ فتجعل جينوم كل واحد منا جينوماً شخصياً. وهذا ما يعرف بما بعد الوراثيات epigenetic، ويكوَّن النمط الظاهري بعد الجيني epigenetic phenotype. ويتمثل هذا القسم الشخصي من جينومنا بتسلسلات DNA، التي ترمز أنواعاً من RNA لا علاقة لها بإنشاء البروتينات (أي لا علاقة لها بِـ mRNA، و بِـ rRNA، و بِـ tRNA، التي لها جينات بشرية النوعية ضمن الجينات 24100). ونذكر —كأمثلة من بين هذه الأنواع من RNA الفردية النوعية— RNA مزدوج الشريطة (dsRNA)، و RNA الاعتراضي القصير (siRNA)، أو RNA المُسكت (sRNA). ونذكر من تسلسلات DNA الفردية النوعية تسلسلات المعززات، وتسلسلات المحولات الريبية، وتسلسلات عناصر DNA المتحركة، وتسلسلات الجينات الكاذبة، والتبصيم الجينوم، وهلَّم جرَّا. وغنِيٌّ عن التأكيد أَنَّ معظم ما بعد النمط الجيني يُنظِّمُ تعبير الجينات البشرية نفسُها. أَمَّا في ما يتعلق بالتحويرات الفيزيائية والكيميائية، التي تصيب كلاً من DNA والهستونات، وتجعل جينوم كل فرد منا جينوماً شخصياً؛ فتتمثل خاصة بتمتيل، وبهدروكسي تمتيل DNA. كما تتمثل باستلة الهستونات، وفسفرتها، وكذلك بدرجة ارتزام حلزون DNA، وجسيماته النووية nucleosomes، وهلَّم جرَّا. يمكننا أن نلخص جوهر النظرية الثانية المقترحة بقولنا إِنَّ كثرة التباينات الفردية في تسلسلات القسم الأعظم (98.5 في المئة) من DNA جينومنا، وكذلك التحويرات الفيزيائية والكيميائية، التي تصيب كامل الجينوم، وتصيب أيضاً الهستونات، وتحدث على نحو يختلف قليلاً أو كثيراً من فرد بشري إلى آخر؛ إِنَّ كثرة هذه التباينات، وكثرة هذه التحويرات، التي ينظم معظمها تعبير الجينات البشرية تنظيماً يختلف من فرد إلى آخر، جعلت من جينوم كل فرد بشري جينوماً شخصياً؛ كينونة متفردة، لن ينشأ احتمالياً مثيل indentical لها (باستثناء توأم البيضة الواحدة) طوال عمر النوع البشري (الإنسان العاقل)؛ أي منذ 300 ألف عام، وحتى انقضاء 4.6 مليار عام (عندما تندثر الحياة على الأرض). وللدلالة على ذلك نسوق المثال، الذي ذكر غير مرة: إٍنَّ تكوّْن معقد القحف-الوجه (في الفأر) يحدث نتيجة فاعلية 300 جيناً فأرية (تخصص نوع الفأر). وتنظم فاعلية هذه الجينات الفأرية أربعة آلاف شدفة من DNA، تعمل كلها كمعززات (أي غير مرمزة للبروتينات). أي أَنَّ عدد الأشكال المُحتملة لمعقد القحف-الوجه في الفأر يبلغ ثلاثة مئة مرفوعاً للأس 4000 (4000300). إِنَّ التماثل بين جينوم الإنسان، وجينوم الفأر يزيد على 85 في المئة. وكما سبق أن ذكرنا، وفي ما عدا العقل، والقانون الأخلاقي؛ فإِنَّ الإنسان لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن أي ثديي آخر. لذا؛ فأننا نتوقع أن يكون عدد الأشكال الاحتمالية لمعقد القحف-الوجه في الإنسان مساوٍ على الأقل لما هو عليه في الفأر: 4000300؛ أي رقم 3 متبوعاً بأربعة آلاف ومئة صفراً. وتجدر الإشارة إلى أَنَّ عدد الذرات، التي تشكل الكون القابل للرصد يساوي 8010×1 ذرة تقريباً؛ أي رقم 10 متبوعاً بثمانين صفراً فقط.